تذكرة ذهاب بلا عودة

unnamed

فى محطة مصر أو هكذا يطلقون عليها حتى و لو كان مكانها فى الإسكندرية وقفت أمام شباك التذاكر لا أعلم كيف أضع حد للمياه المنسابة من مسام جلدى فى أحد أيام الصيف الأكثر سخونة أتفاوض مع السيدة الجالسة خلف الشباك التى لا زالت تحتفظ بخواصها المصرية فى هذا الجو الخليجى الذى أتى مع المصريات المرتديات للعباءة السوداء القادمة مع رجوع العاملين فى الخليج ، أتفاوض معها على مكان لى فى القطار الذى سيتحرك بعد نصف ساعة من الآن فقالت لى لا يوجد مكان إلا فى الدرجة الأولى فقط و عليك الأنتظار قليلاً ربما أجد لك مكان فى الدرجة الثانية و لأن الجو لا يحتمل طلبت منها الحجز بالدرجة الأولى فقالت بعصبية أنتظر قليلاً لكى لا تدفع عشرين جنيهاً إضافية ألا تحتمل الأنتظار أم أنا أتحدث الهندية !!
فضلت الإنسحاب إلى الوراء و عدم الرد عليها إحتراماً لفارق السن و لرغبتها فى الحرص على نقود عابر لا تعرف عنه شيئاً، بعدها بدقائق لوحت لى بيدها أنها وجدت لى مكان فى الدرجة الثانية فحصلت منها على تذكرتى و شكرتها على حسن المعاملة !
هرولت باحثاً عن الرصيف الذى يستعد منه القطار للرحيل بعد دقائق باحثاً عن مكانى الذى وجدت أحد الشباب جالساً فيه و قد غط فى نوم عميق رغم أننا فى الساعة الواحدة ظهراً تاركاً لى مقعده شاغرا ًبجوار الممر مفضلاً هو المقعد الذى بجوار الشباك، لم أرد أن أزعجه تعاطفاً مع ملامح الإرهاق الواضحة على وجهه النائم
بعد ساعة من تحرك القطار تململ الشاب فى مقعده ينظر حوله يستكشف وجوه المسافرين ناظرا من الشباك متسائلاً أين نحن الآن؟
رد عليه المحصل نحن فى طريقنا الآن إلى محطة دمنهور تذكرتك من فضلك، أخرج الشاب تذكرته و زجاجة تلج يشرب منها القليل بعد تحول الثلج إلى ماء
– تحب حضرتك تشرب؟
– لا شكراً فلقد أشتريت زجاجة
– لكن زجاجتك صغيرة أما زجاجتى تكفينا من هنا حتى أسوان
شكرته على سماحه أن يشاركه شخص غريب زاد سفره حتى و لو طال
سمعه من كان يجلس أمامنا فقال له ملوح بزجاجته الصغيرة الفارغة ممكن أشرب من فضلك ؟
فطلب منه زجاجته الصغيرة و ملأها من زجاجته المثلجة فنظر إليه الآخر فى تعجب فضحك من هو بجوارى قائلاً له أن كرسيه يحتوى على صنبور يصب ماء مثلج فقط و التفت إلى قائلاً
– هذا القطار يقف فى المحافظات و المراكز و سنقضى فيه أربع ساعات و لكن الذى جعلنى أحجز فيه أمس سعر تذكرته الرخيص
– لم أكن أعرف ، فلم أخطط أصلاً لركوب القطار و لكن الجو اليوم غير محتمل و عموماً الجلوس فى التكييف أربع ساعات أفضل من ساعتان و نصف من الحر المستمر على الطريق الصحراوى
– عليك أن تنهى إرتباطاتك سريعاً فى القاهرة لتستقل قطار الثامنة مساء العائد للإسكندرية
رددت مبتسما
– لن أعود فأنا من القاهرة أصلاً و كنت فى زيارة سريعة لشقيقتى
– حظك جيد أنا سكندرى و ذاهب إلى مقابلة عمل فى القاهرة فالعمل فى مدينتا شحيح
رددت قائلاً الحمد لله على أى حال فقال
– على العموم أنا لا أريد العمل فى القاهرة و لا فى مصر كلها أنا ذاهب لمكتب تسفير عمالة إلى الخليج فأنا مهندس و لم أعمل بالهندسة و لا أبحث حتى عن عمل فى تخصصى
– مهندس و عاطل !!
– لست عاطل عن العمل فأنا أعمل بائع فى محل للأثاث و لكن حتى هذا العمل الذى أرتضيته مهدد بسبب الركود الإقتصادى فصاحب المحل قد يستغنى قريباًً عن بعض العمالة
– و هل وجدت عمل فى الخليج ؟
– هناك فرصة فى السعودية و لكنى أنتظر إتصال صاحب العمل
– أنا لا أحب الحياة فى الخليج و لا فى السعودية خصوصاً
– و هل تملك رفاهية الأختيار ؟
لم أجد رد مناسب على سؤاله المر و تابع حديثه قائلاً
– لقد تعرضت للنصب بسبب رغبتى فى السفر فلقد طلب مكتب سفريات منى ألفين جنيه نظير مصاريف إستخراج تأشيرة من أجل اللحاق سريعاً بوظيفة تم إختيارى لها فى الكويت و بعد الدفع طلبوا منى المرور عليهم بعد شهر لأجد المكتب مغلق بالشمع الأحمر و عندما توجهت لقسم الشرطة أطلعنى الظابط على آلاف المحاضر لضحايا مثلى
– و هل بعد هذا تعيد الكرة ثانية؟
– و لكنى تعلمت الدرس و لن أدفع جنيه قبل التأكد من حصولى على الوظيفة
لم أجد رد مناسب هل أواسيه أم ألومه على غفلته فالقانون لا يحمى المغفلين ، لم أسأله على أسمه حتى لا يسألنى عن أسمى تجنباً للحديث عن شؤونى فرغم الصعوبات التى أواجهها فأنا أفضل حالاً منه
و تابع حديثه قائلاً
– الحمد لله على الألفين التى ذهبت و لن تعود فغيرى تعرض لما هو أنكى فعندما كنت مجند فى سلاح حرس الحدود إكتشفنا قارب بالقرب من السواحل المصرية يحمل مهاجرين غير شرعيين من محافظات مصرية مختلفة و عندما رأوا قارب القوات المسلحة من بعيد هللوا فرحين ظناً منهم أننا من القوات الإيطالية و لكنهم صدموا صدمة العمر عندما وجدونا جنود مصريين !!
ضحكت ضحكة سوداء مطالباً له بالمتابعة
– كنت أتعجب من حالات إغماء وقعت بينهم من الصدمة و لكن بعد أن عرفت كم المبالغ التى دفعوها للنصاب الذى ذهب بهم بعيداً عن الشاطئ و ظل يدور بهم يوماً أو أكثر فى المياه القريبة القريبة من الشاطئ المصرى صائحاً فيهم بنهاية رحلته أو بالأحرى نزهته معهم :
– حمد لله على السلامة يا شباب خفر السواحل الإيطالى سيقبضون عليكم عند مرور دوريتهم بعد قليل أخبروهم أنكم هاربين من الحرب السورية و أنكم تطلبون اللجوء إلى الإتحاد الأوروبى و قام بالقفز فى الماء !!
و تابع قائلاً
– لقد دفعوا عشرات الآلاف بعد أن باع أهلهم ما يملكون على أمل أن يرسلوا مبعوث لهم إلى أرض الأحلام و لكن الأحلام غرقت بالقرب من السواحل المصرية!
إقترب القطار من الدخول إلى السواحل القاهرية فقررت توديع رفيق طريقى الذى ألتقيت به بدون ميعاد ، بدون أن أسأله عن إسمه و بدون حتى أن أخبره بأسمى متمنياً له التوفيق فى مسعاه للخروج من البلاد بسلام و بدون المزيد من الخسائر
و أنا فى طريقى للخروج من القطار وجدت عائلة سورية نساء و أطفال يبدو من مظهرهم أنهم ذهبوا للأستجمام فى الإسكندرية و عائدون إلى بيتهم فى القاهرة و لولا أنهن نساء لكنت سألتهم كيف وجدوا الحال فى بلادنا ؟
هل يجدون فيها خير لا نجده نحن ؟
هل المشكلة فينا أم هناك مصر أخرى لا نعرفها يعيش فيها سوريين و عراقيين و أفارقة و يجدون نصيب من خيرها فأتخذوها لهم وطن بينما نحن نبحث عن وطن الآخر ؟

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>