ليلة العيد

أم كلثوم فلاحة تمتعت بتعليم جيد وأعطاها والدها مساحة كبيرة من الحرية منذ صغرها وصوتها مرتبط دائماً بليلة العيد

عندما قدم المطرب العراقى كاظم الساهر أول حفلاته فى مصر نصحه أحد أصدقائه المصريين بتقديم أغنية باللهجة المصرية، فغنى من كلمات الشاعر عبد الوهاب محمد “مقدرش أكون جنبكوا ومفوتش من حيكوا” التى يبدو من ظاهر الكلمات أنها أغنية عاطفية ولكنها لا تخفى جانب الحنين إلى الوطن المسيطر على المطرب العراقى خاصة أن الكلمات تصف الحالة التى تنتابه وهو يمر بجوار الجدران التى شهدت عليه وهو ممسك بيد حبيبته بالأمس وقد أصبح يمر من أمامها لاحقاً وهو شارد وحيد، نفس الكلمات يتردد صداها فى خيالى بنفس صوت المطرب المسيطر عليه الشجن عند مرورى بالقرب من بيت العائلة القديم مع فارق بسيط فى التفاصيل حيث أننى لم أمسك يدها أبداً مثلما قال الشاعر لأن ذكريات الحنين الخاصة بى موجهة إلى كائن من ذوات الأربع ليس له يدين!

كانت ليلة العيد عندما قرر أبى أن نتوجه إلى بيت العائلة لقضاء عيد الأضحى مع جدتى التى تستعد دائماً جيداً لمثل هذا اليوم من كل عام وقد قررت فى هذا العام التضحية بجدى وكبش، وصلنا عصراً إلى البيت الذى له حديقة أمامية واسعة وفناء خلفى أكبر وقد أحتلها الضحايا مؤقتاً حتى يحين موعدهم باكراً مع الجزار، جائنى تحذير جدتى بعدم اللعب فى الفناء الخلفى لعدم إثارة الجدى صاحب القرون الحامية التى كانت بالفعل تلمع بعض الشئ فى شمس مغيب ذلك اليوم، ليصيبنى بالكدر من حرمانى من الولوج إلى أحد أماكنى المفضلة عموماً من أجل هذا الكائن الذى جلست أراقبه من خلف نافذة أحد الغرف متعجباً من كبريائه فلقد كان مرتفع الرأس دائماً لا يحنيها على الأرض وكان يتحرك بخيلاء بضع خطوات للأمام والخلف على العكس تماماً من الكبش الذى كان يبدو عليه الأستسلام التام لمصيره المحتوم!

ما هى إلا ساعات وأشرق يوم العيد وأنا فى أنتظار مشاهدة رد فعل الجدى بقرونه المدببة عندما يرى سكين الجزار ويسمع صوت سنها وكيف ستحنى هذه الرأس لتكون أسفل النصل إلا أن الذى حضر المشهد فى طاعة عمياء كان هو الكبش وغاب الجدى الذى شاء له القدر أن يرحل عن الدنيا بكرامة كما عاش فيها دائماً ليكون مثواه الأخير ببقعة ما داخل نفس الفناء الذى أحتله وحرمنى من دخوله ليلة العيد، لتظل روح الجدى تدافع عن المكان ضد كل من يريد الأقتراب من البيت كله حتى وهو تحت تراب فنائه الخلفى فتارة يفشل مشروع بيع البيت بسبب رفض جدتى التى وعندما أصابها الوهن أنقذها قرار من الحاكم العسكرى آنذاك بتجريم هدم أى مبنى أثرى وحتى عندما رحلت جدتى عند الدنيا وضعفت يد الدولة بقانونها وأختلف الورثة وورثة الورثة تندر البعض أن جدتى قد تكون مارست السحر لوقف بيع البيت!

بالطبع قد يكون سحر هذا الجدى ذو القرون المدببة هو السبب فى صمود البيت ضد محاولات بيعه التى أستمرت لسنوات طويلة، فلقد دافع صديقى ليس فقط عن الفناء الخلفى الذى أتخذه وطناً له محرماً على الجميع الأقتراب منه فى حياته وحتى بعد رحيله ولا أعرف الذى أضعف تأثير سحره فجأة فأدى إلى بيع البيت بثمن بخس لا يعبر أبداً عن قيمته المادية ولا قيمة من مروا به يوماً ما وبالطبع عندما أمر من شارع سُمى على أسم الزعيم مصطفى كامل أستشعر معنى الوطن وعندما أمر بجوار جدارن البيت أستشعر معنى كلمات عبد الوهاب محمد “أمر شارد حزين وأخاف تشوفنى الجيران يقولوا مالوا اللى كان يمر دايماً سعيد”!

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>